التحول الكبير في حياة عمر بن عبد العزيز
الذي تبدل، وما الذي تغير؟! لقد تبدل كل شيء، وتغير كل شيء، لقد أصبح عمر جديداً، هل نحن أمام فاروق جديد، هل نحن أمام عمر جديد؟! نعم، إن هذا الشبل من ذاك الأسد، لقد تحول عمر تحولا ًعارماً، وتحولاً هائلاً، أتوا إليه بمراسم الخلافة، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذه مراسم الخليفة الجديد، قال: لا حاجة لي بها، ردوها إلى بيت المال، أتوا إليه بثياب الخليفة، قال: ما هذا؟ قالوا: ثياب الخليفة الجديد، قال: لا حاجة لي بها، ردوها إلى بيت المال، أتوه بالجواري والغلمان، قال: ما هذا؟ قالوا: خدم الخليفة الجديد، قال: لا حاجة لي بها، ردوها إلى بيت المال! إنه التقي النقي الزاهد العابد الورع الذي تحول فيه كل شيء، الذي كان بالأمس القريب يركب الصافنات الجياد، ويلبس أبهى الحلل، ويأكل أشهى الطعام، ويسكن أعلى القصور، ما الذي غيره؟! إنها المسئولية التي حملها على عاتقه، إنها تهدهد الجبال وتحطم الصخور والحجارة! ثم دخل إلى بيته تحت ضغط إخوانه: أن يستريح قليلاً، وما كاد عمر يسلم جنبه إلى مضجعه وفراشه المتواضع وإذ بولده التقي النقي! إنه عبد الملك بن عمر ، هذا الشاب الذي كان في الخامسة عشر من عمره يدخل على أبيه فيراه نائماً، فينظر إليه ولده ويقول: ماذا أنت صانع يا أمير المؤمنين؟! فيقول والده عمر : يا بني! أريد أن أستريح قليلاً، فإني لم أر في جسدي طاقة، فقال له ولده: تريد أن تغفو ولم ترد المظالم إلى أهلها! فنظر إليه أبوه وقال: يا بني! إني متعب الآن، دعني أنم، وإذا حان وقت صلاة الظهر خرجت وصليت بالمسلمين ورددت المظالم إلى أهلها إن شاء الله، فرد عليه ولده الورع وقال: يا أمير المؤمنين! وهل تضمن أن تعيش إلى صلاة الظهر؟! فانتفض عمر من فراشه انتفاضة من لدغة حية رقطاء! وكانت هذه الكلمات بمثابة التيار الكهربائي الذي سرى في جسده المتعب، وأثارت هذه الكلمة النوم من عين عمر رضي الله عنه وعن ولده التقي النقي، وقام عمر وضم ولده إلى صدره وقبله بين عينيه وبكى، وقال: الحمد لله الذي جعل من صلبي من يعينني على أمر الله عز وجل. ولم ينم عمر ، وخرج على الفور، وأمر المنادي أن ينادي في الناس: من كانت له مظلمة فليرفعها الساعة إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز . ......
خطبة عمر بن عبد العزيز بعد خلافته
وهكذا أيها الأحبة! بدأ عمر حياة خطابية فاروقية جديدة، بين أسسها، ووضح معالمها في هذه الخطبة العصماء، فلقد وقف خطيباً على المنبر في اليوم الثاني وقال بعدما حمد الله عز وجل وأثنى عليه: أيها الناس! ليس بعد نبيكم نبي، وليس بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب، ألا إن الحلال ما أحله الله على لسان رسوله إلى يوم القيامة، والحرام ما حرمه الله على لسان رسوله إلى يوم القيامة، ألا وإني لست بقاض، وإنما أنا منفذ، ولست بمبتدع، إنما أنا متبع، ولست بخيركم وإنما أنا رجل منكم غير أني أثقلكم حملاً، وغلب عليه البكاء والنحيب! ونظر إلى الناس فقال: وأيم الله إني لأقول هذه المقالة وإني لأعلم أني أكثركم ذنوباً، فأستغفر الله العظيم وأتوب إليه. ونزل عمر فدخل إلى داره ووضع يديه على خديه وجلس جلسة القرفصاء يبكي، فدخلت عليه زوجته التقية النقية الوفية الصابرة وقالت: ما يبكيك يا أمير المؤمنين! فقال: يا فاطمة ! إني وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، ففكرت في الفقير الجائع، والمسكين الضائع، وفكرت في الأرملة واليتيم المكسور والمسكين وذي العيال الكثير، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، وخشيت يا فاطمة أن يسألني عنهم ربي عز وجل يوم القيامة! فلقد علمت أن خصمي دونهم هو محمد صلى الله عليه وسلم، فأخشى أن لا تثبت لي حجة بين يدي الله عز وجل، فبكت فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، وأجهش عمر بالبكاء. ما هذا؟! في أي عصر يكون عمر ؟! في عصر النبوة، كلا، إنه مثل رائد على صفاء عنصر هذه الأمة، وعلى نقاء معدنها، ما الذي تغير؟! تغير كل شيء، وتبدل كل شيء.......
قوة عمر بن عبد العزيز وصلابته في الحق
وبالرغم من هذا، أرى أن العظمة تتجلى في أسمى معانيها، حينما نرى هذا الزاهد الورع البكاء الخائف من الله عز وجل، نرى هاتين العينين السابحتين بالدموع خوفاً من الله عز وجل، نراهما حينما يجلس على كرسي الحكم ويأمر بالسياسية، نراهما تحدقان كعيني الصقر، وترسلان بريقاً أخّاذاً يقنع كل من يرى أنه أمام عينين ثاقبتين ليس إلى خداعهما سبيل، وهذه هي العظمة في أجل معانيها، وأسمى صورها، في خلوته بينه وبين ربه: إنه الزاهد التقي النقي الورع، أما في موطن عمله، وفي مقر إنتاجه.. في حقله.. في مصنعه.. في مزرعته.. في متجره، فهو القوي الشديد على هذا العمل، وهذه هي العظمة أيها الأحباب! فقد اجتمع أمراء بني أمية واتفقوا جميعاً على أن يرسلوا إليه تهديداً ووعيداً؛ لأنه حرمهم من الأموال والمواريث والحقوق، وأمر برد هذا كله إلى بيت المال! واجتمعوا جميعاً وقرروا أن يرسلوا إليه رسالة وعيدية على لسان عمر بن الوليد بن عبد الملك ، فأرسل إليه عمر بن الوليد رسالة شديدة قال فيها: من عمر بن الوليد إلى ابن عبد العزيز ، أما بعد: فلقد أزريت بمن سبقك من الخلفاء، وسرت في الناس بغير سيرتهم، وقطعت ما أمر الله به أن يوصل، وعملت في قرابتك بغير الحق! فعمدت إلى أموالهم ومواريثهم وحقوقهم وأدخلتها بيت مالك عدوناً وزوراً وظلماً! فاتق الله يا ابن عبد العزيز ، وإلا ليوشكن بك ألا تستقر على منبرك! وعيد واضح، وتهديد صارخ، وما كان من هذا الورع البكاء التقي النقي إلا أن يتحول إلى زلزال مدمر، وإعصار مزمجر! وعلى الفور يرد برسالة شديدة على عمر بن الوليد فيقول فيها: من أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إلى ابن الوليد، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد: فعهدي بك يا ابن الوليد كنت جباراً شقياً، والآن ترسل إلي وتتهمني بالظلم لأنني حرمتك وأهل بيتك من مال المسلمين! الذي هو حق للضعيف والمسكين وابن السبيل! ألا إن شئت يا بن الوليد أخبرتك بمن هو أظلم مني وأترك لعهد الله، إنه أبوك الوليد بن عبد الملك، الذي حين كان خليفة للمسلمين استخلفك عليهم صبياً سفيهاً تحكم في دمائهم وأموالهم! فويل لك وويل لأبيك! ألا إن شئت أخبرتك يا بن الوليد بمن هو أظلم مني وأترك لعهد الله، إنه من ولَّى الحجاج بن يوسف يسبي المال الحرام، ويسفك الدم الحرام! ألا إن شئت أخبرتك يا ابن الوليد بمن هو أظلم مني وأترك لعهد الله، إنه من ولّى يزيد بن أبي مسلم على المغرب كلها يجبي المال الحرام ويسفك الدم الحرام! ألا رويدك يا ابن الوليد، فوالله لو طالت بي حياة لأقيمنك وأهلك على المحجة البيضاء. والسلام. إنها العظمة! ورع تقي بكاء وجل في خلوته، بينه وبين ربه، أما على كرسي الحكم والسياسة فهو القوي الشديد، صاحب العينين الثاقبتين اللتين تدوران كعيني الصقر فتلقط كل شاردة وواردة، وبالفعل أيها الأحباب! تغير كل شيء بعدما غير الولاة وأمناء بيت المال، وغير القضاة، وغير كل شيء، واستتب الأمر من جديد على أروع ما يكون، حتى إن الناس أحسوا بأنهم يعشون في عصر النبوة! ......
اختفاء الفقراء في عهد عمر بن عبد العزيز!!
إننا نذهل أمام هذا الإجماع التاريخي الذي يقول: لقد اختفى الفقر والفقراء في عهد عمر رضي الله عنه! نعم اختفى الفقر! حتى إن الأغنياء كانوا يخرجون بزكاة أموالهم فلا يجدون يد فقير تبسط إلى هذا المال، يا للعجب! في عشرين عاماً؟! في عشرة أعوام؟! كلا والله، بل في سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام! إنها المعجزة! إنها الكرامة الكبرى على يد ولد الإسلام العظيم! وأرسلت الكتب من أمير المؤمنين وتقرأ في مساجد عواصم دولته التي كانت تبلغ مساحتها ربع مساحة العالم اليوم في القرن العشرين، تقرأ كتب أمير المؤمنين رضي الله عنه: من كان عليه أمانة وعجز عن أدائها فلتؤد عنه من بيت مال المسلمين! من كان عليه دين وعجز عن سداده فسداد دينه من بيت مال المسلمين! من أراد من الشباب أن يتزوج وعجز عن الصداق فصداقه من بيت مال المسلمين! من أراد من المسلمين أن يحج وعجز عن النفقة فليعط النفقة من بيت مال المسلمين! وما من يوم إلا وينادي المنادي من قبل عمر : أين الفقراء، أين اليتامى، أين الأرامل، أين المساكين؟! يا ألله! يا خالق عمر سبحانك! ليس في عشرين عاماً وإنما في عامين ونصف! وذلك إذا سلك الناس طريق الحق ومنهج الله عز وجل وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]، وقال تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً [نوح:10-13]. رحم الله عمر ، وجزاه الله عنا خير ما جزى صالحاً أو مصلحاً، وأقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم. ......
. . .يتبع